الاثنين، 9 نوفمبر 2015

علي السكة



            قصة مُنتفخة :     
                 

                                           
علي السكة
الوحيد في المنزل الذي أقضي الحاجات لأنني الصغير في إخوتي أو أبناء العمومة وللفهلوة التي أنعم بها _ كما يقولون _ ، فأدعي علي نفسي أو بالأدق يَدعي عليّ الآخرين بأن لي مهارة لا بأس بها في الشراء والبيع ومعرفة أي الأنواع فضلي وأيها ردئ سئ .
أمتطي دومًا دراجتي المتهالكة التي كلت مني وتعبت من كثرة ما أخذتها إلي من يعهد بتصليحِها، ولكن لم أفتر منها، فهي بالنسبة لي أغلي من أي سيارة فارهة من التي أشاهدها في الإعلانات أو في الطرقات ، عزيزة عليّ، جزء من كياني وحياتي اليومية فيها.
فلقد  كانت هدية التفوق في المرحلة الإعدادية ومن يومها تعمل بشكل يكاد يقارب الجيد.
لا أستعملها إلا لقضاء حاجة بعيدة عن المنزل، أو كانت في وقت ما المعاون الأول في الذهاب للدروس، والآن إذا أردت أن أخرج ما في القلب محرراً، وأزيل ما علق بها من هم، أمتطيها وألف بها في الأجوار وأعود جذلان .

أخرجتها ... عمدَتُ إلي تنظيفِها بقطعة من القماش، كتلك التي تنظفُ بها الشبابيك والأسِرّة، هي في الظاهر قطعة قماش بالية، ولكنها في يوم من الأيام كانت قميص لديّ أو أحد إخوتي، لها دورة كاملة كدورة الفطريات لابد من أن تأخذها وتمر عليها مرورا كاملاً دون أن ينقص منها شئ، تبدأ بقميص جميل رائع يلفتُ النظر وترتاح عند إرتداءه ... حتي إذا أصابه العطب مُتمثلاً في بعض الخروق والتلف .. تحول بالمقص والسكين إلي قطع قماش تتفاوت في الحجم منها الصغيرة والكبيرة للتنظيف في المطبخ والنوافذ، حتي إذا ضربها البلي أكثر وأكثر لم يبق أمامها إلا أن يُلمع بها الأرضيات والأحذية .

 وفي أي طريق أو مكان أذهب إليه لابد لي من أعرج علي محطة السكة الحديد، وفي هذا كان لديّ تقليد خاص بي جداً، فقبل الإقتراب لابد من النزول من علي الكرسي ... أستحث الخطي وأنا أدفعها جواري حتي لا يتلف الكاوتشوك للدراجة من الحديد الذي يكون علي السكة والحُفَرِ فيه ... وحتي لا تدعو عليّ بالخلاص بعد عِشرة ... فهي عضدي وساعدي ومنقذتي .
وفي هذه المرة عند النزول .. راعني شئ ربما شاهدت مرات قبل ذلك، ولكن في هذه المرة كان له رونقاً خاصاً وطابع لا مثيل له سواء علي المدي النظري العيني، أو الأثر النفسيّ والشعوري الذي يدغدغ روحك ببعض الخلجات، هذا الشعور الذي أوقات كثيرة _ بل دائما _ لا تستطيع أن تعبر عنه بالكلمات تعبيرا تاماً ، لا لجهلك به، فأنت تراه وتعرفه معرفة الطفل الصغير لأسماء الحلوي وأنواعها، ولكن لعدم القدرة علي إخراج هذا المكنون بالكامل وبالطريقة التي تشعر بها وتحسها وتمس روحك وذوقك أيضا قبل أي شئ .

فتاة السكة الحديد كما أحببت أن أطلق عليها هكذا، زعمت بخيالي المريض بأنها في الخامسة عشرة من عمرها أو ربما يزيد عن هذا، لما كان يبدو ظاهراً عليها من علامات الأنوثة الغضة، هذه الدلائل التي تفصل تماماً بين كون الفتاة ما زالت صغيرة، وبين تلك الأمارات التي تكون فيها تخطت الطفولة وأصبحت آنسة .
 ليست بالجميلة ولا بالقبيحة الدميمة ولكن شكلها مقبول، تقاطيع وجهها مليحة،  ترتاح لها النفس وتسعد به.
 مُلتفحة في جلباب فلاحي له لون عجيب غريب لا أعرف كنهه ولا أستطيع أن أضعه مع الألوان الأخري في قاموسه، ولكنه عصي عليها وهي عصية عليه، فإذا هبت ريح، طار وتمادي في طيارنه كأنه يريد أن يُقلع، فربما هي أُجبِرت عليه وهو فُرِض عليها، جلباب مثل الذي أراه عند بائعات الخضر والفاكهة في السوق الأسبوعي الكبير يوم الخميس، ويظهر عند قدمها في خِفية من الأمر، بنطال له لون بنفسجي لا يتلاءم نهائياً مع لون الجلباب،علي رأسها غطاء كبير مهلهل ، يصل إلي خصرها أو ينحسر عنه قليلاً .

جالسة علي كرسي خشب كان فيم مضي له لون بُني ولكن بسبب الشمس التي كانت تقلقله في مضجعه استحال إلي لون آخر .
 أمام عربة من تلك التي تراها عند بائع الليمون في السوق، إن كُنت من مُحِبي النزول إلي الأسواق والتسكع فيها ، عربة علي شكل مربع كبير تستند من الوراء علي عجلتين كبيريتين من الذي تراهم في عربة الكارو _ إن كُنت تعرفها لو تعرف ما هي الطبلية ! وليست مرهفا وتأكل بالشوكة والسكينة فستعرفها _ أما من الخلف تستند علي قائمين من الخشب متينين قويين تساعدها في الوقوف جيداً ، من أعلي مقبضين يستخدمان في جرها .

يتناثر علي العربة الجديدة القديمة، أخلاط عجيبة من أشياء تُباع وتُشتري، من أمشاط للشعر ... وأربطة هذه التي ترتديها الفتيات... (قصافات) للأظافر.. ومقصات متفاومة في الحجم..  بعض ( الجِلد )التي تستخدم في الأنابيب المنزلية ... مفكات كهربائية للربط ... بطاقات بلاستيكية تستخدم لحفظ البطاقة الشخصية أو بطاقة الجامعة ... وأشياء أخري من هذا القبيل أذكر بعضها، وتنسيني مشاكلي وكآبتي بعضها الآخر .
وجدتها من بعيد عندما هممت أن أترجل من علي ظهر الدراجة، تمسك في يديها جريدة ومنهمكة في قراءتها، يشع منها هذه النظرة، نظرة الشغف علي القراءة، النظرة التي تجمع فيم بين الانهماك والتداخل بين السطور التي كتبها صاحب المقال أو القصة أو أيّ كان من فنون الكتابة المختلفة،  تلك التي تشعر معها بأنك قد انفصلت عن العالم بأسره ، تسير في واد بعيد سحيق ليس فيه ضوضاء أو مكبرات للصوت تُشيع أحدهم وقد توفي، أو أبواق للسيارات تُضرب من دون أي سبب والشارع فارغ أو مؤثرات أخري تحرجك من الحال التي أنت بصددها ، تلك النظرة التي فيها مثلا تكون قرأت سطراً أو اثنين وتحاول جاهداً أن تكمل ما قرأت ولكن يستعصي عليك ذلك.
 فعقلك يوقفك لتتأمل ما بين السطور والحروف وماذا يقصد الكاتب من وراء هذا ؟ لمَ هنا استخدم حرف الجر بدل من غيره ؟، إلي آخر هذا كله ، كل ذلك لاحظته من بعيد علها من مجرد نظرتها للجريدة التي بين دفتيّ يديها .

وبالنسبة لفتاة من بلاد الأرياف والقري، تجلس عند بداية السوق، وتقرأ فهذا هو العجب نفسه الذي لن تجد عجب أعصي وأكبر منه ، هذا هو ما يدعوك _ لدينا هنا _ إلي أن تفغر فاك وتقف مدهوشاً منعقد اللسان لا تقو علي الكلام ولا الحراك .

فالفلاحون طبقات _ وإن جيز أن أتحدث عنهم لأنني عاصرت بعضهم ولا زلت_ ، فهناك الفلاحون المتدمنون، العصريون نوعاً ما، الذي يشتغلون بالزراعة ولكنهم مواكبين تطورات العصر ومجرياته من تلفاز وانترنت والسهر إلي آخر الليل ومنتصفه وغيرها من الأمور التي يحاكون فيها أبناء المدن والعواصم الكبري وهنا يطبقون المفهوم العصري الحصري للسذاجة.
وهناك النوع الثاني الذي لديه أيضا تلفاز، ولكنه صارم روتيني في حياته اليومية من استيقاظ مبكرا قبل الفجر، ليجهز حماره ويضع عليه بردعته ويركبه في العربة الكارو التي سيجرها واضعا عليها من تِبن وفأس وغيره مما يستعمله في الحقل ، ومن النوم بعد العشاء مباشرة ، وإن كان هذا النوع الأخير قلما جدا، بل نادراً يقترب من ندرة حيوان الباندا أن تجده في ريفنا هذه الأيام .

ولكنني خمنت أن هذه الفتاة من النوع الثاني، النادر الوجود، وهذا النوع أيضا يمتاز _ إن لم تك هذه الميزة هي عيب بعينه _ إنه كثير النسل بحيث يتعد المعقول بدرجة كبيرة، فيترتب علي هذه الزيادة إن بعض الأبناء، إن لم يك كثير منهم ، يقع تحت وطأة عدم التعليم فيكتف مثلا الفتي منهم بالإعدادية ومن ثمّ ينتقل للحقل مع والده ، والفتاة يكفيها الإعدادية أو الابتدائية أو بحسب ما يقولون :
كويس ، كفاية لحد كده يا أوختي ، أهه بتعرف تفك الخط وخلاص .

فترد عليها الأخري :
ده تحمد ربها إنها بتعرف تفُكه .

فتكون بعد ذلك في خدمة الدار وتسمين العجول، ورعاية الدواجن والبط والأوز والحمام، وكلها سنتين أو ثلاث ويأت إليها من يطرق الباب ... يحملها فوق الأعناق إلي بيت العدل وهي لم تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها، ولكن بالتحايل علي القانون وغيرها من هذه الأمور التي يكون فيها المحامون مهرة وأصحاب حذاقة غير عادية وجشعين لا غيورين .

لذا أن تجد فتاة من بين أظفارهم، وما زالت متمسكة بالقراءة في هذه العمر الذي يكون من المفترض أن تنتظر عَدلها، أو في البيت نفسه ، تكنس وتوقد النار لعمل طعام الغداء ، فهذا أمر عجيب حقاً، ويدعوك للتفكير والتأمل .
فمن الأساس لا أعرف لم تجلس هذه الفتاة مجلسها هكذا أمام العربة في هذا القيظ ؟، ربما هي مسئولة من بعض أخوتها ...
 ربما أبويها هما اللذان دفعاها للعمل علي هذه العربة ...
ربما وجدت في هذا العمل ملتجأ ومنفسا مما يعج به الدار من الأولاد والعيال ...
 فهنا تجد الراحة، والمكان الذي تقرأ فيه من دون أن ينهرها أحد، ويزجرها عما تفعله، ولكن أوقات ينالها بعض الإستهزاء والسخرية من أصحاب القلوب الجافة  من الغادين والمارين عليها .

وكلما اقتربت منها وجدت النظرة في الجريدة تزداد فكراً وعمقاً، وأشعر أكثر بهذه الهالة التي تدور حولها وتكتنفها من جميع الجوانب، هالة المثقفين والمثقفات، فهي تبدأ بالتفكر والتبحر به، فهي البذرة الأولي للشجرة المثمرة، ولكن كيف وأين لها أن تجد الرعاية لكي تنتشلها مما هي فيه، وتضعها في المصف الذي يليق بها لا بالمتملقين غيرها ؟

وعلي الطرف الآخر من السكة فتاة أخري من فتيات المدينة كما خمنت من ملابسها ، وطريقتها في الحديث للفتاة المثقفة الصغيرة صاحبة السكة، فتاة بلهاء _ كما عرفت بعد ذلك _ كان بها فيم مضي جمال، فأصبح الآن رمق منه فقط بسبب ما تستعمله من أدوات للزينة المفرطة وأحمر الشفاة لامع منه وغيره، بدا عليها بأنها في السنة الأخيرة من الثانوية العامة لأن الآن وقت الدروس لهم في الإمتحانات فهم الوحيدون الذين يغدون ويروحون ويجوبون الشوارع ومعهم رعبهم بسبب الامتحانات ،علي الرغم من أن الرعب لا وجود له ولا لازمه .
 بنطال ضيق من الأسفل إلي الأعلي حتي لتشعر بأنه ملاصق لجلدها، إذا أنخلع انسلخ الجلد معه، من فوق ترتدي " بلوزة " بالكاد تصل إلي وسطها، لا ترتدي حجاب من بعيد كما تراءي لي، ولكنني كنت خاب الظن بسبب النظر المتردي والذي يحتاج إلي نظارة لتحسينه، فلقد كان الحجاب هو خارج بارز من وسط شعرها، فنصفه أو إن أستطعت أن تقول كله في الخارج تتباهي به وتختال وتتمايل كأنها ملكة للكون  فإما أن تخلعه وتتركه لمن هم يوقره أو تتحجب أما هذه المرحلة الوسطية هي ( هيافة ) .
 والحقيقة أنها ملكة للقبح وتشويه المعني الأنثوي الجميل الذي خلقن له، من الصعب جداً ألا تسمع تعليق من هذا الشاب أو ذاك الذي بلغ الكبت لديه أقصاه صفارة طويلة منه لها ، أو ينطلق اللسان ويطلق الكلام، أو آخر يندفع بتهور كأنه أول مرة يفعل هذا ليس لديه خبرة ماضية فيطلب منها رقم هاتفي أو يعطيها رقمه، وهي فرحانة مرحة ، تطير من النشوة والسعادة ، وإن كانت تحاول أن تظهر بأن هذا لا ترتاع وتهتم به ، وهذا خلاف ما تبطن .

واقتربت الفتاة البلهاء واقتربت أنا كذلك حتي أصبح كلا منا بحذاء الفتاة المثقفة ، وكان لابد للفتاة صاحبة الثانوية أن تمر من وراء المثقفة الريفية حتي تستطيع أن تعبر من دون أن يؤذيها تراب دراجتي المتهالكة ويؤذيها غبارها ، فسمعتها تصيح بكلام أرعن ، أبله ، أحمق مثلها :

وسعي كده خليني أعرف أعدّي ، ايه القرف اللي بيتحدف علينا ده كده ، أنتي ، أنتي يا اللي قاعدة الكلام ليكي ، وسعي يتك القرف ، أووووف .

نظرت لها الفتاة المثقفة نظرة ليس بها أسي أو حزن وتعجبت لذلك جداً ، ولكنها نظرة تحدي واستحقار وسخرية واستهزاء منها ، ثم تكلمت في أناة وحكمة كالفلاسفة وقالت :
بل أنا الذي أعتذر إليك أن كان المكان قد ضايق بعدما جلست فيه ، وأعتذر أنني لم أقم سريعا لحضرتك عندما لامحتك وشاهدتك من بعيد مقبلة ، فالعذر علي نظري وانشغالي في القراءة ، وجاءت مثلك وأخرجتني مما كنت فيه ، ولكن هنالك بعض الأصول التي تعلمتها من القرف الذي أتيت منه وهو أن هنالك أسلوب للاستئذان ، وطريقة لعرض الكلام لا ينفّر الآخرين مني ، فلا يحبونني ويدنوني منهم ، والحق إنك مفتقرة لكل لذلك تماماً ، ليس بكِ ذرة واحدة منه ، أو ربما كان لديك ولكن بسبب عجرفتك ومحاولة التقليد للآخرين بذلك التقليد الأعمي الأصم دون فكر وروية وتشغيل للذهن ، جعلك علي الهيئة التي أراكِ عليها الآن أمامي ، ولتتفلي هذه العلكة من فِيك لم تضف جديد إليكِ ، فالمنظر يكف .

نظرت إليها كالمبهوتة وأنا كذلك ، ونظرت الفتاة المارة إلي المثقفة ولم تنبس ببنت شفة ، أتفلت العلكة في جانب من الحائط ، ومضت في طريقها ، وجلست المثقفة الريفية وعلي وجهها أخلاط من فرح ونشوة بسبب ردها هذا علي الفتاة ، ولكن أيضا أخلاط من حزن وموجدة التي لم يكن مكانها ووقتها ولا لمَ تواجدت ؟ ،
 هل هذا بسبب حزنها علي الفتاة وما فيها وتحسر عليها مما هي فيه ؟
 أم حزن بسبب عدم إكمالها تعليمها وأن لها الحق من هذه الفتاة ؟!
أم لأنها أكملت قراءة الجريدة وتريد غيرها أو أي كتاب تقرأ فيه ؟
أم الحزن علي الاندفاع هكذا في الحديث ؟!



                                                                 تمت
                                                          الأثنين 16 /6 /2014 م







هناك تعليق واحد:

  1. اعتقد ان ليس من المنصف تقسيم الناس الى طبقات متفاوتة نسبة الى المكان الذي يولدون على ارضه ، فليس فضلا لاحد ان يختار ارضا تلائم احلامه وتوفر له حياة هانئة طيبة ، وليس فضلا لاحد في امتلاكه لاهل يحاولون دوما النهوض به ، وليس ذنبا لاحدهم ان يكون محاصرا بين اهل وارض تنصاع دوما لعادات رثة لم ينزل الله بها من سلطان ،
    راق لي كثيرا وصفك للحظة التقاء الفتاة المثقفة كما اسميتها وفتاة الثانوية
    دمت بخير

    ردحذف