الاثنين، 4 يوليو 2016

العمي و ما أدراك ما العمي ؟

إذا أردت أن تبدأ القراءة لساراماغو فعليك بـ " العمي " .. إذا أردت أن تعرف الطريقة الساراماغوية في الكِتابةِ والبنية السردية فعليك بـ " العمي " ... إذا أردت أن تتعرف، تتلمس، تغامر مع مغامرة جديدة محفوفة بالتفكيرِ في كافة شئون الحياة فعليك بـ " العمي " ..
هكذا سيستمع القارئ دومًا ممن حوله، قبل أن يبدأ رحلته في رواية العمي، أو حتي القراءة لساراماغو فالتعرف عليه وعلي عالمه .
.
الرواية تبدأ من النهايةِ، من آخر جملة قالها في آخر الصفحات وهي :
" لا أعتقد أننا عمينا، بل أعتقد أننا عميان. عميان يرون بشر عميان، يستطيعون أن يروا لكنهم لا يرون "
فهكذا هي الرواية بأسرها، والتي أظن انها بشكل ما أو بآخر تنتمي إلي أدب " الدوستوبيا" و نهاية العالم وما شابه.
.
فهي تحكي عن قصة العمي من حوله قد خرج من عباءة أن يكون عاهة قد وُلد بيها الفرد، أو يتدخل العامل البشري بخطأ أو نحوه فيصبح علي إثره الشخص أعمي، إلي عباءه أن يكون العمي نفسه مُجرد مرض، مثل الكوليرا و الجدري والأوبئة الأخري ..
طيب لماذا أصبح الأعمي مرض؟
لا أحد يعرف.
طيب، لماذا انتشر هذا الوباء  فجأة .؟
لا أحد يعرف.
طيب. كيف بدأ ؟
بدأ من شخص، وهو الأعمي الأول، جالس في سيارته ينتظر إشارة المرور أن تتحول إلي اللون الأخضر فيعبر الطريق، إذ به يري كُل شيء أمامه أبيضًا .. لا يري أي شيء أمامه مطلقًا، تحولت الدُنيا إلي ضباب كثيف، بياض في بياض .
يا رجل مُر بالسيارة.. الطريق مُزدحم .. يا جماعة لا أري .. لا أري .. أنا أعمي .
.
ثم بعد ذلك ينتشر المرض، فكُل شخص رأي الأعمي الأول يُعمي زوجته، ثم طبيب العيادة، كُل من في العيادة من الممرضة، الفتاة ذات النظارة السوداء، الكهل ذو العصابة، الطفل الأحول .. و أخذت وطأت المرض تنتشر كالنار في الهشيم فطالت المدينة كُلها فالدنيل كُلها، ثم بين عشية وضحاها، العمي يذهب، العمي يروح، العمي يُستبدل فالرؤية، بإعادة النظر .
.
و ما بين العمي وذهابه، حواديت وحواديت، بداية من تعامل الحكومة مع انتشار المرض، وحجز المرضي في أماكن لا تليق بآدميين وحيوانات حتي أن تعيش فيها، ثم أيضا السلطوية، والبلطجية التي كانت وهم بأعين، يرون، تظهر وهم عُميان أيضًا، ويأتي أفرد " عميان" يفرضون عليهم الإتاوات لأخذ الذهب والأموال منهم مقابل إعطائهم الطعام، ثم تمتد البلطجة بيطلبوا أن يغتصبوا النساء هكذا بكل بساطة، ثم تتعقد الامور حتي يهربوا من هذا المحجر اللعين، ويصطدموا بالحياة التي أصبحت عمياء أو هي بالفعل " عمياء " !
.
في الرواية كُل الأشخاص كانوا عُمي إلا شخصية واحدة وهي زوجة الطبيب، لم يذكر الرواي العليم الذي هو أحيانا الكاتب نفسه، السبب في ذلك، وإن كُنت أرجعته بشكل شخصي ذاتي إلي كونها العين الوحيدة التي ستري كُل ما حدث، فترويه للرواي العليم الذي يرويه لنا، أي أنها كانت بمثابة العين في مدينة العمي التي رأت ما رأت، ثم جاءت لتهمس في أذن الكاتب فيروي قصته .
.
المشاهد واضحة جدًا، علي الرغم من إكتمالها، بمعني مثلا مشهد المحجر أو المستشفي الذي كان فيه العُميان الأوائل رسم ساراماغو المستشفي بالخطوط العريضة نسبيًا، ثم ترك لك الخيال لتكمل أنت الصورة كما تريد أن تراها، وهذا كان الحال أيضًا عندما خرجوا للدنيا بعد أن أصبح الكُل أعمي، رسم الخطوط من خلال أعين زوجة الطبيب، ثم ترك لك الحبل علي الغارب لترسم انت اللوحة القميئة التي شاهدوها عندما خرجوا.
.
من أفضل الأجزاء التي أردت لو كان ساراماغو أطال فيها الحديث كيفما شاء وأراد، هو الكاتب الذي  وجدوه في الشقة يكتب علي الرغم من عماه، فقلم حبر وورقة، وجلس ليكتب؟
ولتفكر معي لماذا يكتب علي الرغم من كونه كان لا يري شيء، أعمي؟ ولن يقرأ _ أصلاً _ أحد كلامه الذي يكتبه ؟
 فيم الإصرار ؟
إنّها الرغبة الجارفة في رصد الواقع، إنها الرغبة في التسجيلن إنها وطأة الكِتابة التي تُحتم علي صاحبها الكِتابة مهما كانت الأمور التي تلتف حول عنقك حتي ولو كان هذا عمي !
.
الكتابة الساراماغوية كانت غريبة، عجيبة، جديدة، مُهلكة لصاحبها، فساراماغو لا يعتد بأي علامة من علامات الترقيم سوي الفصلة و النقطة كما هو مُتضح من خلال نسخة الرواية التي قراتها وهي من دار المدي بترجمة أ/ محمد حبيب .
وأيضًا لا يعتد ساراماغو بجملة القول، وقال فلان في حدة، وقال علان في غضب، وإنما كُل ذلك مُتداخل في السرد، ربما لكي يجعل القاريء مُنتبهًا، يقظًا، لكُل كلمة ستُكتب في الروايةِ وهذا قصده الأول والأخير _ أظن_.