الأربعاء، 9 ديسمبر 2015

وله بهجة



             مقال لا يرتدي سَّرَاوِيلُ :                   

                                       
له بهجةُ

علي المصطبةِ الحجريةِ التي ترتفعُ نصف متر علي الأقلِ عن الأرض .. مُتناثر عليها الغبارُ والأتربة بكثافةِ، وربما أثر قدم كانت مملوءة بالوحل ترتع في بحبوبة هنا وهنالك.
 وذاك كُله طبيعي؛ بسبب مُلازمة هذي المصطبة للطريقِ السريع الذي تمرق من عنده السيارات بإختلاف أشكالها وتباين أحجامها في جنون وسُكر.
 أجلس مع الأتراب ... زجاجات المياة الغازية بين أيدينا مُترنحة في غنج كأنها كئوس الخمر ... ربما نطعم معها ببعض ما يُتبلغ فيخفف " الدغدغة "  في الغازية والتجشأ المرابط لها وخاصة إذا كان الافطار دسمًا.. ولمّا كان اليوم هو الجمعة، فعادة تمر جنازة لأحدهم أو إحداهن فتتمتم الشفاة بالشهادة .. وتدعو السميع العليم بالرحمة والمغفرة لنا وله .

ولنحن أبناء الأقاليم والمدن الدخيلة شأن في ذلك لهو عظيم مشوب بالجلال مُحاط بالهيبة، فالجِنازة لابد أن يتقدم الجمع فيها سيارة عليها بوق ضخم
( ميكروفون ) يذيعُ آيات الذكر الحكيم، من ورائه بضع أُناس في سكون ودعة، الألسن تختلج بين الشفاة ... الرءوس مُنكسة للأسفل إحتراماً ومهابة لجلال الموقف ... سيارة الاسعاف القديمة ذات اللون الأبيض التي تحمل المُتوفي، وأحيانًا تُصرف السيارة صرفًا، ويُستعاض عنها بخشبة متينة عريضة  _ غالباً ذات لون أخضر يانع ولم أصل إلي الآن إلي سبب لذلك _ ،  تُحمل علي الأكتاف ... يُغطي المتوفي بأغطية كثيفة... يتصبب العرق ممن يحملها، ثم بقية الجمع الغفير الخارج تواً من الصلاة؛ منهم قد سار معرفة للميت وأهله حبًا له وطمعًا في مؤازرتهم .. البعض الآخر لو لم يسمع كلام الخطيب في كون أن من يصلِ ويسير خلف جِنازة فأجره عظيم، وله مغفرة فلن ولم يفعل ذلك ..  وهنالك طائفة ساروا مع من ساروا ليس إلا أن بيته في نفس الطريق التي تسير فيه الجِنازة.

بعد الطريق الذي أغلبه وعر.. تدخلُ إلي الجبانة ( المدافن )، بعد قراءة الفاتحة ، كإستئذان للدخول مذ الصغر تعلمته ولم أحِد عنه ..  ولا أعرف هل هو حقيقة أو من الموروث ؟.
 تجد بعض المُتشحات بالسواد يولون وجوههن مُحمرة كأنه قطعة من الجم، الدموع تنهمر من مآقهن كغثاء السيل ...  يوضع المُكرم في المثوي الأخير الضيق الذي فيه فصل عن اللهو واللعب إلي حياة أخري أشبه بالفانتازيا التي تُصور .. يخرج بعض من أهله ليتلقوا العزاء من المشيعيين .. يصبرونهم علي ما ابُتليوا به من ألم وفقدان للعزيز وقبض للروح .. يتزامن ذلك مع وقفة أحدهم عالياً وهو يعظ ويدعي للمُتوفي .

مع مرور الجنازة يومها أمامنا، تذكرت اليوم الذي ذهبت فيه إلي جِنازة في المدينة المركزية الكبري، بعد أن دخلنا في بهائها، وأضوائها التي تُبهر.. ظللنا طِيلة ساعتين نسير ولا نعرف لنا أي وجهة، تخطينا العمائر كلها، ضربنا بالمساكن عرض الحائط .. تركنا المحال وراء ظهورنا.. لا يلوحُ لنا في الأفقِ سوي صحراء جرداء يتناثر علي الطريق السيارات كالجراد المُنتشر.. هذه الفيفاء عن اليمين وعن الشمال قرين .. بعد جهَد ولأي، بعد أن كادت السيارة التي نقطن داخلها ستلفظنا من طول المكوث ولم تهدأ أو تأخذ فترة راحة، وأخيرًا وضحت الرؤية، وانجلي المستور، ووصلنا .

مستحيل أن تري أحد وراء المُتوفي قد مشي، الأقارب وكنت واحدًا منهم جاءوا كُلاً في سيارته، لا نساء تقريباً إلا القليل، النذر اليسير الذي يُعد علي أصابع اليد الواحدة، لا وعظ وخطبة  البعض من الواقفين قد يصل إلي الأغلبية العظمي يُمسك بمنديلِه لا ليمسح الدموع المترقرقة بل العرق الذي يُلجم الفرد إلجاماً _ اللهم إلاً قليلاً_.

لذا فهذا الذي يقبض الأرواح التي تسع في سلام ووداعة بين الأجناب، هذا الذي لابد منه ولا مفر، الحقيقة المؤلمة في الحياة، السالب إلي أن يُسلب ..  الموت.. هنا في الأقاليم التي يسخرون من بعض أهلها ، ويستهزءون من آخرين ، له بهجة.

الموت بكل هذه الأحداث في المدن له روح، يشعر بها من لاحظ وفكر، ويأتنس بها من عاصر وتأمل، بهجة لو علمها أصحاب المدن الكبري حقاً ، فربما نُحسد عليها، رغم كونها بغيضة أشد ما يكون للبغض من معني .



                  تمت الأثنين 9 /3 /2015

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق