الثلاثاء، 22 ديسمبر 2015

عنها - الجزء الثاني - .



وحتي لا أُتهم .. وحتي لا يُطلق ما يُطلق .. فهذا ليس بمقالةِ أو شبه مقالة .. وإنما هي إرهاصاتُ حول اللغةِ .. وخواطرُ قد تأخرت في الخروجِ عنّها .. قد أردت إذاعتها بمُناسبة اليوم العالمي للغة العربية والذي كان في يومِ الثامن عشر من ديسمبر المُنصرم . فلأتركك مع المادة ..

اللغةُ نهرُ، عذبُ ماؤه، صافيةُ صفحة الماء، كلما عببتُ منها طلبتَ المزيدَ، كلما نهلتَ رجوت الكثيرَ، فهي لا تمل من إلقاء في الجوفِ ما يُلقي، طالما القريحةُ عاملةِ، والنفس مُقبلة، والروح مُتشوقة، مُتطلعة إلي العلا علي سُلمِ اللغةِ العربيةِ التي لا تُضاهيها أية لغة أخري علي وجه البسيطة .

اللغة بحر واسع، لا تستطيعُ أن تعرفَ له نهايةَ، يمتدُ في الأفقِ حتي تري أن السماء قد ألتحمت بعبابِ البحرِ التحام الجزء بُكليته .. وقطع المُزن المُتفرقة في الأديمِ الصافي كأنها حلوي تطفو علي الأمواج المُتلاطمة، المُتلاحمة في شبه مُعركة،عظيمة، جلية .

اللغة مثل غادة هيفاء مياسة العود، حوراء الوجه، مُتوردة الخد، مُتحفزة العين، مُتوقدتها، مُنسابة الشعر الناعم، وجمالها دائم من عندِ المولي عز وجل. فالهِرم لن يُدركها أبدًا ما حييت وبقت علي وجه الأرض تنعمُ بالحياة في اختلاج الألسن أو في كتابه الكريم المحفوظ .

اللغة هي أم رءوم تخاف علي أولادها  حتي الصِغار المُشاكسين منهم.. فلتنظر مثلا إلي الابن المُسمي " باللهجة العامية " الذي سبب لها مشاكل أيّ مشاكل، وأقام صراعات جمّة ضد أمه المُتغذي من باطنها الممتلئ .
فانظر إلي الجاحظ في القرن الثالث الهجري يقول :
أنّه لا ضرر من استعمال العامية إذا احتيج إليها، ولكن بشرط ألا تكتب دائمًا ومباشرة بالعامية .

أو فلتنظر إلي الدكتور طه حسين، عميد الأدب العربي، ومجدد الفكر فإمامه .. يقولُ علي اللغة العامية التي جرت علي أقلام بعض الكُتاب والأدباء أيامه !!
 فيقول :
" .. إنها اللغة العامية، التي تستغرق القصة كُلها عند بعضهم وتستغرق أحاديث الأشخاص عند بعضهم الآخر، ولم تصل اللغة العامية إلي أن تكون لغة أدبية وما أراها تبلغ ذلك آخر الدهر " .

علي الرغم من أنّ اللغة قد استوعبت العامية أو العامية أرادت أن ترفل في نعيم فصيح اللغة وتترك الضنك وتقبل علي الرخاء .

ونحن في لهجتنا اليومية نتحدث بالفصحي وأركنها المُتشعبة فمثلاً إذا رأيت أحدهم وهو يعدو من مكان لآخر فأنت تقول عليه باللهجة العامية :
" الواد بيجري زي الصاروخ " أو
شاهدت قوة وبأس أحدهم فتقول :
 " الواد ده أسد "
أتعلم أن الجملتين هاتين يتبعان الدرس الأول الذي أخذته منذ عهد سحيق مضي في البلاغة، وهما مُكتملتيّ الأركان والنواحي .
 فالجملة الأولي هو تشبيه مُفصل حيث أنه شبه الفتي الذي يعدو بالصاروخ المُنفلت من جاذبية الأرض في سرعة رهيبة وذكر أداة التشبية هُنا " زي" .. والجملة الثانية هو تشبيه الفتي في شجاعته وقوته وشكيمته بالأسد القسورة الذي لا يهاب أحد فهو ملك الغابة.
وقسّ علي هذا في حديثنا اليوميّ .. وفي كُل مناحي حياتنا في استيعاب فصيح اللغة .. عامية اللهجة .. وأن الفرع دائمًا يحن إلي أصله.

ودعني أخذك من يدك لأدلل لك علي جمال اللغة، ورونقها أيمّا رونق، وبهاءها أيّ بهاء ؛ وأن مصدرها فياض، ومَعِينها جواد، فمثلاً :
الصديق له معانِ عِدة أخري في اللغة العربية ولقد جمعت لك اليوم نُتف منه .. فبخلاف لفظة الصديق .. عِندك :
- الصاحب وتعريفه : مُرافق أو مالك الشئ أو القائم علي الشئ ، ويُطلق علي من أعتنق مذهبًا أو رأيًا فيقال : أصحاب الشافعي .
- النَّدُّ : المِثْلُ والنظير
- الخليل : الصديق الخالص .
-  الرفيق : المرافق أو الصاحب أو المواطن في المجتمع الشيوعي.
- الصَّنوُ : النظير والمثيل، فيقال هو صنو أخيه، وهما صِنوان.
فحتي أن الصاحب الجالس قديمًا إلي صاحبه في الشراب كانت له لفظة خاصة به وهو : نديم  .
فالمعني واحد تقريبًا لكل هذه الألفاظ ... ولكن لتعدد الأسماء جمال .. تجعلك _ أو تجعلني فلا أعلم موقع الأمر علي نفسك حقًا _ أشعر وكأنني كالطفل الصغير الذي يذوق وسيتذوق حلاوة الاستكشاف ويعرف أنّ للفضول فرح وسعادة.

وللأسف موجات التغريب أخذت تلاحقنا في وطننا العربي في شتي مناحي الحياة .. تارة تسمعه عند هذا الذي بدلاً من أن يقول لأقرانه بعد الانصراف من جلستهم " سلام " فيقول "
Pease  " .. أهذا نوع من التمدين ومواكبة الغرب والسير علي نهجه .. أم هو نوع من حماقة النفس ورعونتها ؟
وأقول أنني لا أنكر علي أي أحد أن يتعلم أيّة لغة أعجمية .. فلو أتيح لي الأمر سأفعل لأنني أريد أن أنهل من المعارفِ عندهم .. وأعرف كيف يفكرون وأستطيع أن أدرس تاريخ آدابهم .. فأدبهم وهكذا .. ولأدلل لك علي أنّ تعلم لغة الغير أمر مُستحث .. النبي العدنان هادي الأمة .. أرسل زيد بن ثابت ليتعلم لغة اليهود .. فتعلمها وحذقها في ثمانية عشرة يومًا فقط .

و موجة أخري من الموجات  تراها مكتوبة أمام عينك في هذا الداء الجديد الذي يتداعي علينا كما تتداعي الأكلة علي قصعتها، فتلاحظه مراراً وتُشاهده تكرارًا علي مواقع التواصل الاجتماعي المُختلفة في أمر يسمي " فرانكو آراب " .. البلوي التي ألقت في جوف البعض .. والمصيبة التي لها خواطر جسيمة علينا لن يُستبان آثارها في الوقت الحاضر .
" فرانكو" هذا الداء الذي أخذ يستشري في جسد الأمة حتي أصابها بالخمول والضعف .. أمسك بالتلابيب .. يضيق الخِناق .

ولكن اللغة جسور، شجاعة، حافظة، محفوظة، هي الركن للهوية العربية، أساس للحِفاظ علي القومية .. فكيف نتخل عن أصلنا .. أو قل عن مجدنا، أو إنّ شئت قلت عن تاريخنا .. فعلي سبيل المثال لا الحصر :
رسائل ابن حيان في الكيمياء التي عرفتها أوربا في نصوصها العربية وفي ترجمات لاتينية وألمانية ثم تُرجمت للانجليزية بواسطة راسل في طبعة لندن عام 1928 م .
أو كتاب الجبر والمقابلة الذي ألفه الخوارزمي ونقله جيرار الكريموني للاتينية في القرن السادس الميلادي .
أو كتاب الأدوية البسيطة للأندلسي ابن الوافد
وغيرهم " وتستطيع ان تقرأ عن المزيد ان أردت الاطلاع في كتاب لغتنا والحياة للدكتورة عائشة عبد الرحمن في الصفحات التالية 132 ، 133 ، 134 _ طبعة دار المعارف .

وتأمل معي المشهد، وأنك قد أصبحت فيلسوف عظيم الشان، أو عالم فذ تقف علي منصبة نوبل أو طبيب تشرأب الأعناق حولك أو صرتِ رائدة في التنوير وإزالة غشاء الظلمة عن العقولِ  أو كاتبة جليّة الأثر يلتف حولها المُريدين وتمت الاستضافة في لقاء يشهده الملايين حول العالم ، وأنت تتحدث باللغة العربية سواء أكانت الفصحى أو الغريمة اللهجة العامية . المهم أنك تتحدث بلسان عربي مُبين، تتحدث بهويتك، تتحدث بالبيئة التي نشات فيها، تتحدث بالوطن وللوطن، عندما تتأمل ويمتلأ الأمر داخلك حدثني وقعه علي نفسك ؟

والحديث عن اللغة لن ولم يمل منه .. ولكن حتي لا أطيل فأصير لا يُطاق فأتم القول اليوم بأبيات لشاعر النيل الكبير حافظ إبراهيم حينما قال :

وسِعتُ كِتابَ اللهِ لَفظاً وغاية ً**** وما ضِقْتُ عن آيٍ به وعِظاتِ

فكيف أضِيقُ اليومَ عن وَصفِ آلة ٍ
**** وتَنْسِيقِ أسماءٍ لمُخْترَعاتِ

أنا البحر في أحشائه الدُر كامن *** فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي؟

                                                                                           تمت
                                                                                  الثلاثاء 22 ديسمبر 2015 م
                                                                                      المكتب
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق