الجمعة، 28 أكتوبر 2016

إحياء ذكرى طه حسين ( 1 - 2 )




الدكتور طه حسين من الشخصيات المصرية العتيدة، التي أثرت في مصر تأثيرًا كاملاً و كبيرًا في كافة مناحى الحياة الواسعة.
فإن أكبر تأثير وأوضح علامة كانت في التعليم، حينما نادى بأنه لابد أن يكون التعليم الأساسى مجاني، ثم بعد ذلك نادى بضرورة أن يكون التعليم الجامعي هو الآخر مجاني، وعباراته المُتواترة والمشهورة " التعليم كالماء والهواء " .
و لكن، حاشا لله أن أحصر الرجل في هذه الزاوية فقط لا غير، فإن آثاره المُتعددة في كُل مجالات الأدب المختلفة دليل دامغ علي صدق ما أقوله .
و ما تلي أقل ما قد يُقدم للرجل الذي قدم في حياة مسيرة عظيمة و حافلة :



***********

أولاً المقالة :


                              أيام وراء أيام 


الرجلُ الضَريرُ الذي أستبدل نور البصرِ بقريحةِ البصيرة فأَلهم أجيالاً وأجيالاً، المصباح المُنير المُتجه ناحيته الرقاب، الكوكب الدائر حوله أقمار الفكر، النجم المُتقد المُنفجر مِنه معرفة، الشجرة الطيبة الراسخة في تلافيف العقل، وغير ذلك من التصورات الجمّة والتشبيهات العُظمي والتي قد تخلعها عليه، وستليق به بلا أدني شك؛ فتجعله مِنوارًا بين الكُتاب، هاديًا بين المربيببن الفُضلاء، فنانًا ذكيًا وسط القصاصين والروائيين، سياسي ذو حِنكة وسط الساسة، يقظًا لكُل تفصيلة بين المؤرخين، فمعه وبه بدأَ عهد التنوير والثورة الفكرية والعقلية والدعوة إلي إبداء الرأي، فهو الأحوذي الأكبر، الجليل، عميد الأدب العربي بشهادة جموع الشعب،د/ طه حسين.

                                           ******

وبما أنّنا  كُنّا منذ أيام قليلة مضت علي أعتاب دخول المدارس، والاستيقاظ المُبكر وتحية العلم ونحو ذلك من أمور، فلابد وحتمًا وواجبًا وضروريًا من الإشارة عن الصلة الوثيقة الشائكة بين الدكتور طه حسين وبين المدارس، والمُعتقد أنّها قد شُوهت أيمًا تشويه!
فمما هو معلوم أن القصةَ المقررة علي المرحلة الأخيرة من الثانوية العامة في جمهورية مصر العربية، هي قصة الأيام الخالدة، التي هي – كما أتصور- من أهم وأفضل وأمتع القصص الذاتية التي كُتبت بقلم صاحبها. ولكن في المدارس ونحن طلبة – وكُنت من هؤلاء – لم نكن نعتبر الأيام علي هذا النحو من المُتعة مُطلقًا، وإنّما كانت من أمْلّ، وأسَفْه ما قد يُدرس؛ فهي أولاً ستُحفظ حفظًا أصمًا حتي إذا جاء الإمتحان صُب ما في وعاء العقل داخل الورقة صبًا، وثانيًا لسان الحال المُتحدث عنها أيامها مِن :
- ما الذي سأستفيد به من هذا الصبي الذي يدفن رأسه في الغطاء بسبب الخوف من العفاريت؟

أو – ما الفائدة الجُهنمية التي ستلق داخلي من جراء ما فعله مع ( سيّدنا ) ؟

أو حتي  - ما هي النواحي الجمالية التي سأستفيد بها من حديثه وهو ذاهب إلي الأزهر وعروجه علي بائع البسبوسة؟

 وغير ذلك، وكلها استنكارات، تسربات، من الضيق نبعت وتكونت، حتي استحالت إلي سجن ضخم داخل العقل، أسواره عالية، وفيه تم نفي وكراهية الدكتور طه حسين، والتي أصبحت لا أتلمسها عند أبناء جيلي فحسب، بل لحق الأمر جيل من بعدي كُله والكثير مِن من قبلي، حتي أصبح الأمر أشبه ما يكون بطمس لهوية الرجل الذي كان أول من حصل من الجامعة المصرية
– جامعة الملك فؤاد آنذاك - علي الدكتوراة عن أطروحته في رفيق حياته وصديقه الروحي أبي العلاء المعري.

ولقد رسمت خِطة خرافية، جُهنمية ، لن تُكلفْ مُعلمي المدارس أكثر من دقائق معدودة بحث في داخل الكُتب أو حتي علي شبكة الانترنت طالما شملت العولمة العالم.

فمثلاً :
ماذا يمكن أن يحدث في نظام الكون لو أن المُعلم قبل أن يبدأ في مستهل القصة يُلق علينا شيئًا من حياة الدكتور طه حسين ؟


من هذا الفتي الضرير الذي جلس القُرفصاء في محطة القِطار في مغاغة بإلمنيا، ليذهب إلي مصر المحروسة ليكون مثل أخيه الشيخ أحمد حسين، ولكن رحابة المسجد لم تكن مثل رحابة عقول الشيوخ آنذاك، فأخذ يضيق بالأزهر أو الأزهر هو الذي يضيق به خاصة بعد المقالة التي هجم فيها علي الشيوخ لأنّهم حضروا حفلة في فندق يُقال له سافوي، ووقتها نشرت الصحف وزعمت أن أكواب الشمانيا كانت تدور حول المائدة.
فكتب المقالة وهي مثبوتة في جريدة العلم التي كان يرأسها الشيخ عبد العزيز جاويش وبدأها بأبيات للشعر قال فيها :
رعى الله المشايخ إذا توافوا      إلي سافواي في يوم الخميس
وكانت – بالمٌناسبة – هذه المقالة السبب في كونه سقط في امتحان عالمية الأزهر.

 ثم كانت الجامعة المصرية، ثم السفر لفرنسا ونيل الدكتوراة أيضًا من هُنالك، ثم العودة ليصبح مُدرسًا بكُلية الآداب، فعميدًا لها، فوزيرًا للمعارف ويجعل التعليم كالماء والهواء، ثم آثاره وكُتبه ومقالاته ومعاركه الأدبية الطاحنة  حتي آخر أيامه.

ولابد أن يحدثنا المُعلم عن أسباب كِتابة قصة الأيام فالدكتور طه كان من أوائل الكُتاب الذين ذهبوا إلي ساحة القضاء ليُحاكموا فيم كتبوا، وهذا في خضم أزمة كِتابه " في الشعر الجاهلي" وانتحال هذا الشعر، فثارت الثائرة عليه، وحمي وطيس المعركة و نوقش هذا الأمر تحت قبة البرلمان، وكاد الدكتور طه أن يُصادر فكره ويزج به في غياهب السجن لولا الذكي المتفهم الواع المثقف وكيل النيابة- وأظن اسمه محمد نور – استخدم الحق في حفظ القضية وتمت التبرئة.

ولكن حينها ضاق الحال بالدكتور طه، وضاقت عليه مصر بما وسعت، فركب البحر، وسافر لفرنسا هو وزوجته سوزان برسو، وهناك أخذ يغوض فيم قد مضي من حياته، فأخذ يُملي الجزء الأول في تسع أيام فقط، أي أن الرجل قد كتبها في الأساس لا تأريخًا لحياته وتنويرًا لها، وإنما تنفسيًا عن الكربة التي ألمت به، وكادت أن تطوله، وإن كانت طالته نفسيًا، فهرب من كُل هذا الواقع الممض ليكتب قصة واقعية بحتة وهي الأيام!.
ولا بد أن يُعرفنا المُعلم أن ما ندرسه ليس كُل الأيام وإنّما مسخ مِنها، فهُنالك فصول محذوفة، وفقرات مقطوعة، إذا أردنا أن نقرأ فلابد أن نعود إلي متن الكِتاب الأصلى، وأننا إذ أردنا أن نتعرف عن الذي حدث بعد الأيام، فلا ضرر أن نقرأ كِتاب " ما بعد الأيام " لصهره " محمد حسن الزيات، أو حتي المُذكرات التي كتبتها زوجته سوزان وهي تحت عنوان " معك " و مُترجمة ترجمة أمينة صادقة عن الفرنسية للأستاذ بدر الدين عرودكي .

هذه هي الخطة التي لن تُكلف أي معلم قرابة ساعة من البحث والتنقيب، فإذا لم يفعل، وتقاعس، فلا يليق به أن يكون معلمًا، فكيف لا يكون المُعلم مثقفًا ؟!
ولم لا يُعرض علي شاشة التلفاز مذ بداية المدراس، مسلسل الأيام الذي أبدع فيه الفنان أحمد زكي تجسيد شخصية الدكتور طه حسين، والمسلسل هو هو القصة لم يخل بها مُطلقًا، ثم ألا يكف أن أحمد زكي هو المُجسد ؟

                                            ********


وفي سفر ( أشعيا 42 / 16 ) :

" وأسير العمي في طريق لم يعرفوها ..
في مسالك لم يدروها أمشيهم .
أجعل الظلمة أمامهم نورًا، والمعوجات مستقيمة.
هذه الأمور أفعلها ولا أتركهم "


حقيق أيها العميد الجليل، لم تتركنا.
 وهذا أقل ما قد يُؤدى للذكرى الثالثة والأربعين لوفاة عميد الأدب العربي، الدكتور طه حسين.


**************


















ثانيًا : القصيدة


و يحق لي أن أقتبس كلام العميد ذاته في حوار تسجيلي له حيث أنّه قال عن الشعر :

" خصائص الشعر الرائع، إنّه حي دائمًا، وإن شبابه خالد، وإن جماله مُتجدد أبدًا. فهو لا يمثل العصر الذي قيل فيه وحده، ولكنه يمثل العصور مهما تختلف، والبيئات مهما تتباين. "


ونظرًا لذلك، فلم أجد أفضل من مرثية الشاعر الكبير نزار قباني، والتي ألقاها علي جمع غفير من المثقفين والساسة في جامعة الدول العربية بالقاهرة، وهذا جُزء يسير مِنْها
:


ضوءُ عينَيْكَ .. أم حوارُ المَـرايا
أم هُـما طائِـرانِ يحتـرِقانِ ؟

هل عيـونُ الأديبِ نهرُ لهيبٍ
أم عيـونُ الأديبِ نَهرُ أغاني ؟

آهِ يا سـيّدي الذي جعلَ اللّيـلَ
نهاراً .. والأرضَ كالمهرجانِ ..

اِرمِ نـظّارَتَيْـكَ كـي أتملّـى
كيف تبكي شـواطئُ المرجـانِ

اِرمِ نظّارَتَيْكَ ... ما أنـتَ أعمى
إنّمـا نحـنُ جـوقـةُ العميـانِ

* * *

أيّها الفارسُ الذي اقتحمَ الشـمسَ
وألـقـى رِداءَهُ الأُرجـوانـي

فَعلى الفجرِ موجةٌ مِـن صهيـلٍ
وعلى النجـمِ حافـرٌ لحصـانِ ..

أزْهَرَ البـرقُ في أنامِلكَ الخمـسِ
وطارَتْ للغـربِ عُصفـورَتـانِ

إنّكَ النهـرُ .. كم سـقانا كؤوسـاً
وكَسـانا بالـوردِ وَ الأقـحُـوانِ

لم يَزَلْ ما كَتَبْتَهُ يُسـكِـرُ الكـونَ
ويجـري كالشّهـدِ تحـتَ لساني

في كتابِ (الأيّامِ) نوعٌ منَ الرّسمِ
وفـيهِ التـفـكيـرُ بالألـوانِ ..

إنَّ تلكَ الأوراقِ حقـلٌ من القمحِ
فمِـنْ أيـنَ تبـدأُ الشّـفـتـانِ؟

وحدُكَ المُبصرُ الذي كَشَفَ النَّفْسَ
وأسْـرى في عَـتمـةِ الوجـدانِ

ليـسَ صـعباً لقـاؤنـا بإلـهٍ ..
بلْ لقاءُ الإنسـانِ .. بالإنسـانِ ..

* * *

أيّها الأزْهَـرِيُّ ... يا سارقَ النّارِ
ويـا كاسـراً حـدودَ الثـوانـي

عُـدْ إلينا .. فإنَّ عصـرَكَ عصرٌ
ذهبـيٌّ .. ونحـنُ عصـرٌ ثاني

سَـقَطَ الفِكـرُ في النفاقِ السياسيِّ
وصـارَ الأديـبُ كالـبَهْـلَـوَانِ

يتعاطى التبخيرَ.. يحترفُ الرقصَ
ويـدعـو بالنّصـرِ للسّـلطانِ ..

عُـدْ إلينا .. فإنَّ مـا يُكتَبُ اليومَ
صغيرُ الـرؤى .. صغيرُ المعاني

ذُبِحَ الشِّعـرُ .. والقصيدةُ صارَتْ
قينـةً تُـشتَـرى كَكُـلِّ القِيَـانِ

جَـرَّدوها من كلِّ شيءٍ .. وأدمَوا
قَـدَمَيْهـا .. باللّـفِ والـدّورانِ


لا تَسَـلْ عـن روائـعِ المُـتنبّي
والشَريفِ الرّضـيِّ ، أو حَسَّانِ ..

ما هوَ الشّعرُ ؟ لـن تُلاقي مُجيباً
هـوَ بيـنَ الجنـونِ والهذيـانِ

* * *

عُـدْ إلينا ، يا سيّدي ، عُـدْ إلينا
وانتَشِلنا من قبضـةِ الطـوفـانِ

أنتَ أرضعتَنـا حليـبَ التّحـدّي
فَطحَنَّـا الـنجـومَ بالأسـنانِ ..

واقـتَـلَعنـا جـلودَنـا بيدَيْنـا
وفَـكَكْنـا حـجـارةَ الأكـوانِ

ورَفَضْنا كُلَّ السّلاطينِ في الأرضِ
رَفـَضْنـا عـِبـادةَ الأوثـانِ

أيّها الغاضبُ الكبيـرُ .. تأمَّـلْ
كيفَ صارَ الكُتَّـابُ كالخِرفـانِ

قَنعـوا بالحياةِ شَمسَاً .. ومرعىً
و اطمَأنّـوا للمـاءِ و الغُـدْرانِ

إنَّ أقسـى الأشياءِ للنفسِ ظُلماً ..
قَلَمٌ في يَـدِ الجَبَـانِ الجَبَـانِ ..





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق